جامعة الملك سعود/ السنة التحضيرية



                    ـ 1 ـ  في مسرحية بجماليون (سيدتي الجميلة) كان البروفيسور هيجنز يحاول إثبات نظريته اللغوية في أن الطبقة الارستقراطية ليست سوى لعبة لغوية، وحاول إثبات ذلك بأن أخذ بائعة متجولة من فئة "الكوكني" في لندن، وهم أكثر اللندنيين عامية، وراح يدرب الفتاة لتعديل لسانها العامي إلى لسان أرستقراطي. ومضت المسرحية بمشاهدها الكوميدية الساخرة والساخنة معاً في عرض لطريقة تحويل اللسان وتخريج الحروف باتجاه النطق المتحذلق والأرستقراطي، وكانت الجملة الشهيرة (The rain in Spain ـ المطر في إسبانيا والطريقة المتحذلقة في نطق إسبين والرين) وانتهت المسرحية بظهور الفتاة الكوكنية في حفلة في البلاط وهي تردد جملاً بلهاء، ولكن بلهجة الطبقة العليا، وهي تلبس قبعة دوقة إنجليزية، وتتحرك بوصفها كذلك، والفارق هو نطق الكلمات فحسب.

في تلك المسرحية يسخر برناردشو من المجتمع المحتذلق وطرق تصنعه حتى ليظهر أنه مجرد لعبة لغوية، يعبث بها عالم لغة كشف عن زيف الطبقة العليا وتصنعها.

يهمني من المسرحية هنا ذلك الموقف المرعب الذي صار للفتاة مع مدربها حين دفع بها هيجنز إلى وضع خرزة تحت لسانها؛ لكي يعدل من حركة اللسان، ومن ثم نطق الكلمات بالطريقة المقصودة، وفي أثناء ذلك ابتلعت البنت الخرزة، وهنا ظهر وجهها على المسرح وهي تتلوى رعباً، وتتصبب عرقاً، وتنتفض يدها خوفاً مما تدحرج في جوفها.. وتنظر للبروفيسور بوجه مفجوع وتقول: لقد ابتلعت الخرزة...!!

رد عليها هجينز بوجه بارد وقال: لا بأس.. لا بأس.. عندي خرزات كثيرة، خذي غيرها.

   رويت هذا المقطع من المسرحية لأنني أرى أننا في جامعة الملك سعود نكرر المنظر نفسه، وأرى أننا نجرع طلابنا خرزات وخرزات في سنتنا التحضيرية، ونقول لهم في كل مرة: "معليش عندنا لكم غيرها". وسأروي مشاهد من هذه في الكلمات الآتية:

                      ـ 2 ـ

عرفت من طالبات في السنة التحضيرية أن عرضاً جاءهن للتطوع بسحب الدم منهن لدراسة تحتاج إلى دم، وشُرط عليهن توقيع ورقة تؤكد أنهن متطوعات، وأنهن سيكررن التجربة بعد سنتين، مع التأكيد عليهن بأنهن متطوعات. وبدأت الطالبات يفكرن بالطلب، وهل يتبرعن؟ وكيف لهن أن يتعهدن بالعودة بعد سنتين لتكرار التبرع؟.. وظل التردد هو سيد الموقف، وما هي إلا لحظات حتى جاءهن خبر يقول: إن التي تفعل هذا ستحصل على علامات هبة من الجامعة للمتبرِّعة. وهنا اندفع الكل، ووقعن وتبرعن بعد السماع بنبأ العلامات، ووقّعن مع هذا على ورقة تؤكد أنهن متطوعات، وكانت الورقة إجبارية.

يبدو هذا طبيعياً جدًّا، ولكنه طبيعي خداع؛ لأن وضع طلبة التحضيرية خطر جدًّا في حساب المعدلات، وكل علامة تفرق وتقرر مصير الطالب والطالبة، فإذا لوحت بعصا العلامات فإنك تضع الناس في موضع اللاخيار، وهنا صار التطوع مجرد لعبة وحيلة، مثله مثل خرزات برناردشو.

طبعاً هذا لا يجوز في أخلاقيات البحث العلمي، ولو جرى كشف ذلك لتم إلغاء نتائج البحث وعدم احتسابه في أي مؤسسة علمية؛ لأنه ينطوي على احتيال واضح. ثم إن ما هو أخطر من ذلك أننا نربي في نفوس طلابنا لغة الاحتيال، وكأننا نسعى إلى تخريج جيل اكتسب قدوة غير صالحة، تمثلت بالمؤسسة الجامعية المحتالة، وتصنع نموذجاً غير تربوي في صناعة الصور الذهنية لأخلاقيات المهنة وأخلاقيات العمل، وما إغراء العلامات مع فرض توقيع التعهد بالتطوع إلا درس في انهيار القيم الجامعية، مقارنة بسطوة الرعب من المعدل وتشدد الجامعة فيه حتى لتكون بعض العلامات بمنزلة المصير المحتوم.

 

                ـ 3 ـ

علمتُ يقيناً من زميل في الجامعة أنه رأى رجلاً في إحدى الشركات يقدِّم أوراق خبرته، وفيها أنه عمل مدرس لغة إنجليزية في جامعة الملك سعود، في "التحضيرية"، وفرحت الشركة به ظناً منها أن من لديه خبرة كهذه مكسب، ولكن – ويا للهول - فقد تبيّن لهم أنه لا يحمل أي شهادات جامعية من أي نوع، وأنه كان سائق تاكسي (ربما من الكوكني كما فتاة المسرحية). وسؤالي هنا عن البقية: ما شأنهم؟ وطبعاً سؤالي مبرر؛ لأنني قبل كتابة المقال عملتُ جولة على كليات الجامعة، وسألتهم: هل تعرفون شيئا عن مدرسي السنة التحضيرية ومستواهم؟ وهل للأقسام دور ـ أي دور ـ في الاختيار أو الإشراف؟.. وكانت الإجابات كلها سلبية وتذمرية بلا استثناء، وكلهم يقولون إن السنة التحضيرية لغز إداري، ولا علم لنا بها ولا عنها، وقالوا إن سائق التاكسي قد يكون هو النموذج. والله أعلم.

 

                          ـ 4 ـ

في مهمة البحث مع الزملاء لفت نظري ملاحظة قالها واحد منهم، وكم أود ذكر اسمه من باب الحق القانوني لصاحب الفكرة، وهي فكرة ذكية فعلاً، وتشرح الشيء الكثير. لقد سألني الزميل قائلاً: هل لاحظت مبنى التحضيرية..؟؟!!

كان سؤالاً كاشفاً فعلاً؛ فالمبنى معزول عن الجامعة جسدياً وعضوياً، ويدير ظهره لكل الجامعة، والطلبة فيه في منطقة البرزخ، وينظرون للجامعة من بعيد، وكأنها الفردوس الموعود (المفقود...!!) أو القلعة السحرية حيث الجميلة النائمة.

هذه صفة المبنى على المستوى الرمزي، وهي صفته على المعنى العملي، وسنرى في مقالين قادمين ما معنى هذا الكلام.

لقد شكرتُ صديقي؛ لأن ملاحظته تلك ستشرح لنا الشيء الكثير عن حالة الفصام التامة ما بين السنة التحضيرية والجامعة، وكأنها الغربال الأسطوري، كما سنرى لاحقاً.

لست أشك أبداً في أن فكرة السنة التحضيرية فكرة طموحة ومشروع نبيل، ولكن - وحينما أقول ولكن فإن وراءها قول شائك جدًّا جدًّا - في المقالات القادمة وقفات حول ذلك، إن شاء الله. وما قلته اليوم هو فاتحة لحديث ليس بالقصير.       


عبدالله الغذامي

0 التعليقات:

إرسال تعليق