دعيت لإلقاء محاضرة في المدرسة الثانوية التي تخرجت فيها قبل 40 عامًا. كانت السيارة تتقدم باتجاه البوابة الرئيسية التي ما زلت أتذكر لونها وارتفاعها واتساعها، محاولاً أن أعقد مقارنة في مخيلتي بين ما تركت مدرستي عليه، وبين ما آلت إليه. ولكم أن تتخيلوا حجم الصدمة التي روعت عقلي عندما أدركت أن شيئًا أبدًا لم يتغير.
كانت المدرسة ببنائها وفنائها كما هي. وقد بدت أقرب ما تكون إلى الأطلال؛ إذ تآكل حجرها، ومات شجرها، وصار فناؤها موقفًا للسيارات، وألغيت ملاعبها ومعاملها، ولم يبق فيها سوى طلاب ومعلمين وجداول حصص وكتب مقررة. ومما زاد في ألمي أن تناهى إلى علمي أن القسم الأدبي قد أُلغي من المدرسة، ولم يعد فيها حصص للشعر والأدب والفن والموسيقى ولا حتى للتاريخ والجغرافيا. فلا يدرس فيها اليوم سوى الرياضيات والعلوم والحاسبات والإدارة. ورغم الانفجار السكاني الذي تشهده الأردن، فإن عدد طلابها في تراجع، ومن المؤكد أن مستوى التعليم كذلك. فما هي الأسباب يا ترى؟ طلاب المدرسة المتميزون سيقدمون لكم الإجابة. سألت الطلاب الخمسين الذين شاركوا في المحاضرة عن المهن التي سيختارونها في المستقبل، فأجاب 90% منهم بأنهم ينحون باتجاه الهندسة والطب. وحتى من خرج اختياره عن الطب البشري والهندسة؛ اختار الطب النفسي، وطب الأسنان، وذكر طالب واحد أنه يريد أن يكون طيارًا. ليس في المدرسة من يريد أن يكون معلمًا أو محاميًا أو كاتبًا أو محاسبًا أو إعلاميًا أو فنانًا أو ضابطًا أو حتى رجل أعمال. وهذه تربية كارثية سيدفع معظم هؤلاء الطلاب المساكين ثمنًا باهظًا لها. فالبطالة بين المهندسين في الأردن وصلت أعلى مستوياتها، ومع ذلك فإن ما يقرب من نصف طلابنا المتميزين يريدون دراسة الهندسة في بلد لا يعرف الصناعة، ولا يتقن الزراعة، ولا يهتم بالإبداع والمهارات والبراعة. فما هو الحل؟ من الواضح أن أبناء الطبقة الوسطى بدؤوا يرسلون أبناءهم إلى المدارس الخاصة، ليس في المدن الكبرى فحسب، بل وفي الريف والقرى النائية. وهذه ظاهرة عربية خالصة. في المدارس يدرسون المناهج الدولية اعتقادًا منهم أنها أفضل وأكمل وأشمل. وهذه مغالطة أخرى في سياسة التربية والتعليم. البلاد التي نستورد مناهجها البريطانية والأمريكية تخلفت عن ركب التعليم العالمي، ولم تواكب تقدمه في كوريا وسنغافورة واليابان وألمانيا وفنلندا وأستراليا. ومثلما أن عقارب الساعة لا تعود إلى الوراء، فإن الطيور لا تستطيع أيضًا أن تطير إلى الخلف. لكن طيور التربية والتعليم في الأردن تحلق في الاتجاه المعاكس ظنًا منها أنها تحلق، وهي تعلق. فكلما بذلت جهدًا إضافيًا لحل واحدة من إشكاليات التعليم، تجد نفسها في حالة سقوط حر إلى الهاوية. تأكدت بعد هذه الزيارة الصادمة أن الخبرة هي أخطر ما تواجهه المجتمعات. بسبب عوامل الخبرة وتراكم السياسات الراكدة ما زلنا نعتقد أن التعليم يقوم على الحقائق والأرقام، لا على الأفكار والأحلام. فالخبرة قد تكون واعظًا جيدًا، وملقنًا يعيد قراءة نفس النص على قبور الموتى، ولكنها أسوأ معلم عرفه التاريخ. فهي ضد القراءة والتعلم والابتكار والإبداع والتفكير الحر والعصف الذهني والأداء الجماعي والتناغم التلقائي والتوازن الطبيعي والمخاطرة والمغامرة. التعليم الذي يكرر نفسه، ويطير إلى الخلف ليقع في نفس الشرك الذي خرج منه، هو تعليم غير حر، حتى لو امتلأت نصوصه المدرسية بالحديث عن الحرية. |
الطيور تحلق إلى الخلف
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
0 التعليقات:
إرسال تعليق