التعليم المستمر في السويد وفي دول الخليج العربي


التعليم المستمر ظاهرة فريدة استنبطتها السويد، واليوم وأكاد أجزم أنها تبز الدنيا بها. وهذا النوع من التعليم ينظر إلى العلم والمعرفة والتربية بشتى فروعها وأوجهها المختلفة كحق يجب أن يحصل عليه المواطن، وكواجب يجب على الدولة توفيره.
بمعنى آخر أن الفرد له الحق في التعليم المستمر، كما له الحق في استنشاق الهواء والتمتع بضوء الشمس وشرب الماء. والدولة كما أنها لا تستطيع حرمان أي من مواطنيها من استنشاق الهواء وشرب الماء، فإنه عليها ألا تحرمه من التعليم المستمر.
ولأن حق التعليم متوافر مثل الهواء والماء، ترى أن الدولة تمنح الفرد السويدي مرونة وخيارات لا حصر لها كي يكمل تعليمه ويحصل على ما يبتغيه من علم ومعرفة لتأهيله كعضو فعال في المجتمع ومنحه من الخبرة والتجربة ما يؤهله للحصول على العمل الذي يبتغيه.
فهذه دولة لا مكان لشرط العمر فيها إن أراد شخص الاستمرار في التعليم. فترى بين طلبة الدكتوراه في جامعتنا مثلا من يبلغ من العمر أكثر من 60 عاما يجلس على مقعد بجانب طالب أو طالبة في ريعان شبابهما. ويشترك هذا الستيني الذي اشتعل شعر رأسه شيبا في المناقشات التي تدور في الحلقات الدراسية وكأنه في ريعان شبابه.
وما أن يحصل على شهادة الدكتوراه - وهذه تستغرق عادة خمس سنوات أو أكثر؛ لأن السويد لها نظرة خاصة لهذه الشهادة - حتى تراه يدخل منافسا عنيدا للحصول على عمل جديد كي يطور نفسه وعلمه وأبحاثه.
ليس هناك ما يسمى بشرط العمر عند تعلق الأمر بالتعليم في السويد. الشرط الوحيد هو التأهيل، أي يجب على الراغب في التعليم أن يكون مؤهلا علميا كي يتمكن من الاستمرار في التعليم الذي يرغب فيه.
وليس هناك شرط يجبر طالب العلم على أن يكمل دراسته. الفرد بإمكانه ترك الدراسة متى ما شاء. فكثير من طلبتنا في الجامعة يتركون الدراسة بعد جمعهم نقاطا محددة - بإنهائهم بنجاح مناهج دراسية معينة - كي يلتحقوا بسوق العمل. الأمر المثير هو أن الفرد ذاته يعود إلى الجامعة بعد سنين طويلة قضاها في العمل لإكمال نصاب النقاط التي يحتاج إليها للحصول على الشهادة.
والجامعات رغم أهميتها البالغة - هناك 45 جامعة في السويد لسكان تعداده ثمانية ملايين - ليست المكان الذي يجب أن يرتاده المرء للحصول على عمل مجزٍ. الثانويات هي المكان الذي يؤهل الطلبة للدخول في سوق العمل. ولهذا ترى السويديين يحتفلون بالتخرج من الثانوية بأبهة وزركشة لا مثيل لها، حيث تزين الشوارع ويقوم الوالدان بتزيين حتى بيوتهم وسياراتهم وارتداء ملابس جميلة مزركشة إيذانا بحصول أبنائهم على شهادة الثانوية.
والثانويات في السويد لا تختلف كثيرا عن الجامعات من حيث الاهتمام بالبنى التحتية. كل ثانوية لها مكتبة وكل طالب يحصل مجانا على حاسوب (كمبيوتر) شخصي. ويبقى الطالب في الثانوية إلى ساعة متأخرة وتقدم له وجبات الطعام اللازمة.
ولكن أهم شيء لاحظته هو الطريقة التي تكيف فيه الثانويات نفسها كي تستجيب للبيئة وظروف العمل والصناعة في مناطقها. فمثلا تزدهر دراسة النجارة والأخشاب في الثانويات في المحافظة التي أسكن فيها، والسبب هو تواجد شركة إيكيا العملاقة للأثاث وشركات أخرى كبيرة جدا تعنى بصناعة الأخشاب.
وكثيرا ما يحصل طلبة النجارة على براءة اختراع تتلقفه الشركات منهم وتعينهم فور حصولهم على شهادة الثانوية. الطلبة في الثانوية، ولا سيما الأقسام الصناعية والمهنية منها، وهي الأهم، يقضون معظم أوقاتهم في ورش دراسية هي بمثابة نسخ مصغرة للمعامل والمصانع التي سيعملون فيها. وينطبق الأمر على المهن والصناعات الأخرى.
وباستطاعة الطالب الحصول على شهادة الثانوية دون أن يكون مؤهلا لدخول الجامعة؛ لأن هدف معظم طلبة الثانوية هو الدخول في سوق العمل في عمر مبكر جدا. بإمكان الطالب الحصول على النقاط أو التأهيل اللازم لدخول الجامعة متى ما شاء وهناك مؤسسات تعليمية كثيرة، مسائية وصباحية، تقدم هذا النوع من التعليم باستمرار وفي الحقول العلمية المختلفة.
والسويد استنبطت أسلوبا تعليميا قد لا يحبذه الآخرون، ولكنه أثبت نجاعة في زيادة واستمرارية التعليم في المجتمع، ومفاده أن الإنسان لا يجب أن يرسب. كلمة الرسوب خارج نطاق المؤسسة التعليمية في السويد. الكل يجب أن ينجح. وعليه إن لم يحصل المرء على النقاط اللازمة في درس ومنهج معين من حقه إعادة الدراسة والدخول في امتحان بغض النظر عن عدد المرات. وإن لم يستطع الحصول على النقاط اللازمة بعد أدائه للامتحان مرات عدة، يأتي دور التعليم لأغراض خاصة، حيث يبسط المنهج ويخصص مدرسون مؤهلون لهكذا نوع من التعليم لغرض مساعدة الطالب على تجاوز المشكلة.
والتعليم المستمر ممكن في السويد؛ لأن التعليم برمته مستوطن - أي أن الدراسة والمناهج وكل ما يدرس ويتدرب الطلبة عليه وطني 100 في المائة لأن وسيلة تلقينه هي اللغة الوطنية.
أكتفي بهذا القدر في جمعتنا المباركة هذه وأترك شأن المقاربة والمقارنة لقرائي الكرام.. وإلى اللقاء.
ليون برخو  - صحيفة الاقتصادية

0 التعليقات:

إرسال تعليق